الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة "خوف" لجليلة بكار وفاضل الجعايبي: الآن وهنا ...الطريق لن يؤدي الاّ الى المجهول

نشر في  09 أكتوبر 2017  (16:42)

ظلام دامس.. غبار كثيف .. صوت هيليكوبتر قوّي يتخلله صوت رياح عاتية، يضاء المكان .. ركح شاغر سوى من بعض الجدران السوداء، تظهر شخصيات منهكة ورثة الملابس تتقاذفها عاصفة هوجاء، قادتها الى مستشفى مهجور، يتفطن أعضاء الكشافة الى أنهم فقدوا أحد أصدقائهم.. بالمبنى المميت يواجهون البرد والجوع، أما خارج تلك الأسوار فلا مفر من العواصف الرملية التي غزت البلاد ودفنت المباني والعباد تحت كثبان الرمال ..

على ركح مسرحية "خوف" لجليلة بكار والفاضل الجعايبي، تتداخل مشاعر ابطال العمل بين الخوف والرهبة والأمل في النجاة، مشاعر متناقضة تتدفق من خشبة الركح وتنساب داخل المشاهد الذي يعيش حالة من الحيرة والغموض ويسافر مع الشخصيات نحو المجهول لتزيد الموسيقى القاتمة وصوت العاصفة من مشاعر الخوف لا فقط على ركح "خوف" بل أيضا لدى المتلقي الذي يستحضر مشاعر خوفه من حاضره ومستقبله، ويبحث مع أبطال العمل عن مخرج من المجهول ..

داخل المستشفى المهجور تجبر الشخصيات على التعايش معا، تتتالى الخيبات وتشتد العاصفة، ويفقد الأمل في النجاة، ومع مرور الوقت ينفذ ما لديهم من طعام وماء، لتطفو على السطح مشاعر جديدة، مشاعر حب البقاء والوحشية ، وامام الغرائز الحيوانية تغيب الانسانية، وتستفيق الأنانية وحب الذات ويتفشى جنون العظمة ويسود قانون الغاب حيث السلطة للأقوى، للقائد الذي لا يستمع سوى لصوته متجاهلا المجموعة، يتواجهون يتقاتلون وتغيب قيم التآخي والتضامن والتعاون والوحدة بعد طغيان الجوع والعطش واقتراب شبح الموت ..

عندما تغيب القيم ويتجرد المجتمع من انسانيته

لم تقض العاصفة الهوجاء على المباني والعباد والبلاد فقط، بل على كل القيم والمبادئ، فتتشتت المجموعة وتسيطر عليها الأنانية المفرطة، ليبحث كل فرد عن طريق الخلاص بمفرده، لكن محاولاته تبوء بالفشل ليعود الى نقطة الصفر، الى المبنى المهجور، حيث لا مفر من الموت المحتم .

تتناثر الجماجم على الخشبة ، وتنطلق رحلة الخوف، الخوف من المجهول من الموت من المصير، رحلة البحث عن مخرج من عالم الأموات الى عالم الأحياء والحياة، شخصيات تتوه بين غريزة البقاء والواقع المظلم، تنطلق صيحات الفزع والاستغاثة، تمر الهيليكوبتر فوق رؤوسهم لكنها تتجاهل صراخهم، مطالبهم، كما تتجاهل السلطة مطالب الشعب ..

هي حلقة مفرغة تحوم حولها الشخصيات، يتقلص الأمل في النجاة، وتزداد وحشية المجموعة وفرقتهم، يتصارعون، ويقصي كل منهم الآخر ويستنقص دوره، تغيب عنهم الحلول الجماعية والتضامن وتسيطر الحلول الفردية التي لن تؤتي أكلها، وتنهار قيم الكشافة المبنية على التلاحم وهو ما تلمسه بداية المسرحية من خلال الأغاني الكشفية، لتحل محلها الرغبة في البقاء والتقاتل من أجل قطعة خبز او رشفة ماء، يموت الانسان وتموت الانسانية وتنطلق رحلة اللاعودة ..

وعلى خشبة "خوف"، يظهر فريق العمل، كل الظواهر التي سيطرت على مجتمعنا من حب للذات وأنانية وكذب واستقواء، تغيب قيم الانسانية والوحدة الاجتماعية، أمام تسلط وديكتاتورية قائد المجموعة "المغتصب"، ورغم تقزيم المجموعة لدور المرأة حيث تحرم " القائدة شهبة" من قيادتها بتعلها أنها امرأة "مالك كان مرا"، تثور المرأة في المسرحية وتحاول ايجاد حلول عاجلة، وتستجمع قواها في تحدّ صارخ لذكورية المجتمع الذي أثبت في العمل فشله في ايجاد المخرج ..

في خوف عوّل الجعايبي بشكل كبير على أداء الممثلين فاطمة بن سعيدان ورمزي عزيز ونعمان حمدة ولبنى مليكة وأيمن الماجري ونسرين المولهي وأحمد طه حمروني ومعين مومني ومروى مناعي، حيث لامسنا الخوف والضياع والتردّد، كما حضرت الضحكة التي برهنت على أن الأمل مازال قائما، وأن حبّ الحياة سينتصر لا محالة، وفي "خوف" تجد كل مكونات المجتمع التونسي، من أعلى الهرم الى قاعدته، والعلاقة الأفقية بين السلطة والشعب.

في "خوف" نجد ثورة شعب انتفض كالعاصفة ضدّ الفقر والتهميش بحثا عن الحرية والكرامة، شعب وجد المخرج، لكن ودون أن يدري وجد نفسه يعود أدراجه نحو المربع الأول مربع الخوف، والأنانية والأنا الأعلى لكل فرد من أفراد هذا المجتمع، وفي هذا العمل نجد أن الخوف قد يدفع المجموعة الى التفرقة والتشتت عوض البحث عن حلول جماعية تخرجها من عنق الزجاجة من المصير المجهول .

لخوف أكثر من دلالة ومفهوم، "خوف" هي الوطن التائه، هي الحياة المفقودة، هي المصير المجهول، هي الطريق نحو اللاعودة، اذا ما سادت الوحشية وغابت القيم والمبادئ عن المجتمع .  

وفي هذا العمل كان أداء الممثل نقطة قوّة المسرحية، حيث طغت حركات الأجساد على الديكور والاضاءة، فتمكن أبطال "خوف" من ايصال الرسالة والمراد قوله، وأنقذوا العمل من السقوط في الرتابة والملل، رغم طول العرض الذي دام حوالي الساعتين .

ختاما نشير الى أن الجعايبي وبعد ثلاثية "خمسون" و"يحي يعيش" و"تسونامي" يعد لثلاثية جديدة، حيث شاهدنا الى حدّ الآن "عنف" ف"خوف" في انتظار "الأمل"

الجذاذة الفنية

سيناريو : جليلة بكّار والفاضل الجعايبي
نص : جليلة بكّار 
إخراج وإنارة وسينوغرافيا: الفاضل الجعايبي 
موسيقى : قيس رستم 
أداء : فاطمة بن سعيدان، رمزي عزيّز، نعمان حمدة، لبنى مليكة، أيمن الماجري، نسرين المولهي، أحمد طه حمروني، معين مومني، مروى المنّاعي
مساعدة الإخراج : نرجس بن عمّار 

سنـاء المـاجري